الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُرَادُ فِيمَا نُسِخَ مِنْ شَرَائِعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَتَعَبَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِهَا، فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْكُمْ شِرْعَةٌ غَيْرُ شِرْعَةِ الْآخَرِ.قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قَالَ الْحَسَنُ: «لَجَعَلَكُمْ عَلَى الْحَقِّ»، وَهَذِهِ مَشِيئَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى إجْبَارِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِالْحَقِّ، وَلَكِنَّهُ لَوْ فَعَلَ لَمْ يَسْتَحِقُّوا ثَوَابًا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} وَقَالَ قَائِلُونَ: «مَعْنَاهُ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ وَاحِدَةٍ فِي دَعْوَةِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ».قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْخَيْرَاتِ الَّتِي تَعَبَّدْنَا بِهَا قَبْلَ الْفَوَاتِ بِالْمَوْتِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَاجِبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، نَحْوُ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ لِأَنَّهَا مِنْ الْخَيْرَاتِ.فَإِنْ قِيلَ: فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ.قِيلَ لَهُ: لَيْسَتْ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَالْآيَةُ مُقْتَضِيَةٌ لِلْوُجُوبِ، فَهِيَ فِيمَا قَدْ وَجَبَ وَأُلْزِمَ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْطَارِ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَيْرَاتِ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْمُبَادَرَةِ بِالْخَيْرَاتِ. اهـ.
.التفسير المأثور: قال السيوطي:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ...} الآية (48).أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة قال: لما أنبأكم الله عن أهل الكتاب قبلكم بأعمالهم أعمال السوء، وبحكمهم بغير ما أنزل الله وعظ نبيه والمؤمنين موعظة بليغة شافية، وليعلم من ولي شيئًا من هذا الحكم أنه ليس بين العباد وبين الله شيء يعطيهم به خيرًا ولا يدفع عنهم به سوءًا إلا بطاعته والعمل بما يرضيه، فلما بيَّن الله لنبيه والمؤمنين صنيع أهل الكتاب وجورهم قال: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه} يقول: للكتب التي قد خلت قبله.وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: {ومهيمنًا عليه} مؤتمنًا عليه.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {ومهيمنًا عليه} قال: المهيمن الأمين، والقرآن أمين على كل كتاب قبله.وأخرج أبو الشيخ عن عطية {ومهيمنًا عليه} قال: أمينًا على التوراة والإنجيل، يحكم عليهما ولا يحكمان عليه قال: مؤتمنا محمد صلى الله عليه وسلم.وأخرج آدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد {ومهيمنًا عليه} قال: محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمنًا على القرآن، والمهيمن الشاهد على ما قبله من الكتب.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {ومهيمنًا عليه} قال: شهيدًا على كل كتاب قبله.وأخرج أبو الشيخ عن أبي روق {ومهيمنًا عليه} قال: شهيدًا على خلقه بأعمالهم.وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} قال: بحدود الله.وأخرج عبد بن حميد وسعيد بن منصور والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله: {شرعة ومنهاجًا} قال: سبيلًا وسنة.وأخرج الطستي عن ابن عباس. أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عزوجل: {شرعة ومنهاجًا} قال: الشرعة الدين، والمنهاج الطريق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم. أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول:يعني به النبي صلى الله عليه وسلم.وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} قال: الدين واحد والشرائع مختلفة.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا} يقول: سبيلًا والسنن مختلفة، للتوراة شريعة، وللإنجيل من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن كثير في قوله: {ولكن ليبلوكم فيما آتاكم} قال: من الكتب. اهـ. .أسئلة وأجوبة: سؤال: فإن قيل: إِذا كان المعنى بقوله: {لكل جعلنا منكم شرعةً}: نبينا محمدًا مع سائِر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله: {ليبلوكم}؟فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائِر الأنبياء والأمم.قال ابن جرير: والعرب من شأنها إِذا خاطبت غائبًا، فأرادت الخبر عنه أن تغلِّب المخاطَب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب. اهـ.سؤال: فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون المحقَّ حينئذ من المبطل منكم. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:المرادُ بالكتابِ القرآن العظيم.والباءُ في {بالحَقِّ} يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ {الكتابِ} أيْ: مُلْتَبِسًا بالحقِّ والصِّدْقِ، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوزُ أن تكون حالًا من الفاعلِ أيْ: مُصَاحبينَ للحقِّ، أو حالًا من «الكافِ» في {إليْكَ} أيْ: وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ.و{مِنَ الكتابِ} تقدم نظيرُه، و«أل» في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة كما تقدم.وجوَّز أبُو حيان: أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ صفة أيْ: مِنَ الكتابِ الإلهِي، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ.قوله تعالى: {وَمُهَيْمِنًا} الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ، اسمُ فاعلٍ، وهو حالٌ من {الكتاب} الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو {مُصدِّقًا}، ويجوزُ في {مُصَدِّقًا} و{مُهَيْمِنًا} أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ {إلَيْكَ}، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رحمه الله.{وعليْهِ} متعلقٌ بـ «مُهَيْمِن».و«المهيمنُ»: الرَّقيبُ قال حسَّان: [الكامل]والحافِظُ أيْضًا قال: [الطويل] وعن ابن عباس رضي الله عنهما «شاهِدًا» وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي، وقال عِكْرِمَةُ: دالًا، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عُبيدَةَ: مُؤتَمنًا عليه.وقاله الكسائيُّ والحسنُ.واختلفوا: هل هو أصل بِنَفْسِهِ، أيْ: أنه ليس مُبْدَلًا مِنْ شيءٍ، يقالُ: «هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن» كـ «بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر».وقال أبُو عُبَيْدة: لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ: «مُبَيْطِر، ومُسَيْطِر، ومُهَيْمن، ومُحَيْمِر».وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ «أدَبِ الكاتبِ» لفظًا خامسًا، وهو مُبَيْقِر، اسم فاعل من: بيقَر يُبَيْقِر أيْ: خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان.وقيل: إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ، والأصْلُ «مُأَأْمِن» بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً كـ «هراق وهراح، وهَبرتُ الثوب» في: «أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ» و«أيهاتَ وهَيْهَات» ونحوها، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها كـ «مُبَيْطِر» وإخوانه، وأيضًا فإنَّ هَمْزَةَ «مُأَأْمِن» اسمُ فاعلٍ من «آمَنَ» قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت، ثم أبدلت هاءً، هذا ما لا نظيرَ له.وقد سقط ابنُ قُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن {مُهَيْمِنًا} مُصَغَّرٌ، وأنَّ أصلهُ «مُؤيْمِنٌ» تصغيرُ «مُؤمِن» اسمُ فاعلٍ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً كـ «هَرَاق»، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضًا، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال: «وهذا حسنٌ على طريق العربية وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى «مُهَيْمِن»: مُؤمِنٌ».وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ أنكره الناسُ عليه، وعلى المبرِدِ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما.ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَبًا هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه: أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله تعالى لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعًا.وقال ابنُ عطيَّة: «إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلبًا فقال: إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه».وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد: {وَمُهَيْمَنًا} بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ.وقال أبُو البقاءِ: وأصلُ «مُهَيْمن»: مُؤيمنٌ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من «الأمانة»؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام «هَيْمَنَ» حتى تكُون «الهاء» أصْلًا، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ «هَيْمَنَ»، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيدًا فيه الياءُ كـ «بَيْطَر» وبابِهِ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ، والفاعلُ هو الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ بلدٍ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ.والضميرُ في «عَلَيْه» على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني.وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ، وقال: «معناه: مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ».قال الطَّبرِيُّ: فعلى هذا يكون {مُهَيْمِنًا} حالًا من «الكَافِ» في {إليْك}، وطعنَ على هذا القولِ لوجود «الواو» في {ومهيمنًا}؛ لأنها عطفٌ على {مُصدِّقًا}، و{مُصدِّقًا} حالٌ مِنَ {الكِتاب} لا حَالٌ مِنَ «الكَافِ»؛ إذْ لَوْ كان حالًا مِنْها لكان التركيبُ: «لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ» بالكَافِ.قال أبُو حيّان: وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن، وتقديرُ: «وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِنًا» أبعدُ يعني: أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد، لكنَّ الأولَ بعيد، والثَّانِي أبعدُ مِنْه.
|